تاريخ النشر: 26/11/2025

بقلم: مريم الدوسري، أكاديميّة سعوديّة في "رويال هولواي" بجامعة لندن، وعضو مجلس إدارة في منظمة القسط لحقوق الإنسان.

عندما أعلن دونالد ترامب أنّ محمد بن سلمان قد حقق ما وصفه بـ"أمور مذهلة في مجال حقوق الإنسان"، كان من حقّ النساء في السعوديّة أن يتساءلن عن أيّ بلد كان يتحدث. لكن ذلك ليس جديدًا. فالنظام السعودي لم يعدم يومًا التصفيق في الخارج، خصوصًا عندما يُلقي للنساء ببضع فُتات مُغلّف برداء "إصلاحات تاريخية". إنّ الأمور ذاتها التي تُشيد بها الحكومات الغربية باعتبارها تقدّمًا، كالقيادة، والسفر، والدراسة، هي حقوق أساسيّة إلى درجة أنها لا تستحق أصلًا التفاوض في أي مكان آخر. ومع ذلك، يبدو أنّه من المتوقَّع من النساء في السعوديّة أن يُبدين الامتنان، وكأنّ استقلاليتهنّ لا وجود لها إلا بإرادة الدولة.

إنّ الأكثر إثارةً للقلق ليس أن النظام السعودي يروّج لوهم التقدّم، بل مدى استعداد الغرب لابتلاعه. فوعد ترامب بعدم "التدخّل" في "ثقافة" السعوديّة، ثم عبارته اللامبالية "تحدث أمور" حين طُلب منه التعليق على جريمة قتل جمال خاشقجي، لم يكونا دبلوماسيّة؛ بل كانا هزّة كتف سياسيّة، ورسالة مفادها أنّ حقوق الإنسان لن تعود تُعطّل صفقات السلاح، وشراكات النفط، وعقود الدفاع بمليارات الدولارات. وما إن تمنح واشنطن هذه الإشارة، حتى يتبعها الأوروبيون. فقد أوضح كير ستارمر بدوره أنّ الأولويّة للأعمال والمصالح التجاريّة. كما وقد جرى تلميع صورة محمد بن سلمان عالميًا إلى درجة أصبحت معها الانتقادات تنزلق عنه بسهولة؛ إذ يغدو الاستبداد مقبولًا ما دام المال يتدفّق. وبالنسبة للنساء داخل المملكة، فإن هذا التساهل الدولي ليس أمرًا مجرّدًا. بل هو تأكيد على أنّ الكذبة نجحت، وأنّ العالم تجاوز الأمر، وأنّ أصواتهن ستظل بلا صدى. لم نكن نعتقد يومًا أنّ الحكومات الغربية تهتم حقًا، لكننا كنّا نأمل أن يخلق الضغط، حتى وإن كان بدوافع مصلحيّة، شيئًا من مساحة الأمان. لكن بدلًا من ذلك، تُترك النساء السعوديّات لمصيرهن؛ يُعاقبن على "العصيان"، ويُمحين بفعل حسابات القوة العالميّة.

في أيّ عالم يمكن لامرأة في الغرب أن تقبل بأن تُوصَف قانونًا بأنها "عاصية"، بينما يُطلَب من النساء في السعوديّة اعتبار ذلك جزءًا من الثقافة، بل ومن التقدّم؟ فوفقًا لنظام الأحوال الشخصيّة، لم تعد "الطاعة" مجرّد توقع اجتماعي؛ بل أصبحت التزامًا قانونيًا يحدّد ما إذا كانت المرأة تستطيع الزواج، أو الخروج من السجن، أو مغادرة دار إيواء العنف الأسري، أو الاحتفاظ بحضانة أطفالها. يمارس القضاة، جميعهم رجال وجميعهم موالون للدولة، سلطة شبه مطلقة، ويُترك "العصيان" بلا تعريف عمدًا. كما وقد تعني مغادرة المنزل دون إذن، أو رفض زواج قسري، أو الإبلاغ عن العنف، وهي أفعال تُعَدّ في أي مكان آخر خطوات مشروعة للدفاع عن النفس، لا تمرّدًا. ومع ذلك، يتجاهل الخارج هذا النظام برمّته بأدب، ويُغطيه بابتسامات دبلوماسيّة، وصور تذكاريّة، وصفقات استثماريّة.

لا يكشف شيء حقيقة مفهوم "الإصلاح" لدى النظام أكثر من ترقية رجل يعتقد أن عبارة "العنف الأسري" تجعل النساء مُتمرّدات. فتعيين صالح الفوزان منصب المفتي العام، باختيار مباشر من محمد بن سلمان، يوضّح اتجاه الدولة أكثر بكثير من أي كتيّب إصلاحات مصقول. حين يصبح شخص يحمل هذه الرؤية أعلى سلطة دينية في البلاد، فالأمر ليس مصادفة؛ بل هو معايرة مقصودة. عندها تُقرأ "العصيان" فجأة بوصفها ليست تجاوزًا، بل الغاية ذاتها. وحول هذا المفهوم، تنتظم بقيّة المنظومة بسهولة: شرطة تعتبر العنف مسألة "عائلية"، قضاة يصدرون أحكامًا على قاعدة تفوّق السلطة الذكورية، ودور "رعاية" حكومية تُؤوي النساء الفارّات من العنف لا لحمايتهنّ بل لتأديبهن، ولتعليمهنّ تقبّل "الثقافة" التي تعرّض حياتهنّ للخطر. إنها لحظة قاتمة بالنسبة للنساء في السعوديّة، ومع ذلك يُصرّ قادة عالميون ووسائل إعلام، بل وحتى بعض النساء، على أنّ ما يحدث هو تقدّم. ويسهل التمسّك بهذه الخرافة ما دامت النساء السعوديّات لم يُعامَلن يومًا كنظيرات كاملات داخل الحركة النسويّة العالميّة، بل كضحايا "ثقافتهنّ" وليس ضحايا حكومتهن.

لا يتجلّى هذا الإقصاء بوضوح أشدّ من موجة "النسويّة" المعادية للمسلمين الأخيرة في بريطانيا، حيث تحوّلت معاناة النساء السعوديّات إلى مادة خام لحروب ثقافيّة لا تخصّنا. فباسم حقوق النساء، استولى تيار معيّن من الناشطات على قصص النساء السعوديّات ليس للدفاع عنهنّ، بل لتأجيج المخاوف من الهجرة والإسلام والخطر المزعوم للمجتمعات المسلمة. وتحت حملات مثل "حرّري وجهك"، يروّجن روايات ميلودرامية عن نساء سعوديّات هاربات من "الشريعة"، روايات تبدو، لأي شخص نشأ فعلًا في المملكة، أقرب إلى الخيال الرديء منها إلى الحقيقة. إحدى هؤلاء ادّعت أنّ النساء يتلقّين إشعارات هاتفية عند إلغاء تصريح سفرهنّ؛ وللحظة تمنّيت لو أنّ ذلك كان صحيحًا. فجرس تنبيه واحد كان كفيلًا بإنقاذ عدد لا يحصى من النساء من جرّهنّ قسرًا إلى بيوت مسيئة أو إلى مرافق "رعاية" حكومية. لكن الدقّة ليست هي الهدف. فهذه السرديات لا تُتداول لفضح عنف نظام استبدادي؛ بل تُستخدم لدمج تجربتنا في صورة كاريكاتورية عن الإسلام، ولتحويل ألمنا إلى تحذير من المسلمين والمهاجرين. والنتيجة هي إسكات مزدوج: ففي الداخل، نُعاقَب لأننا رفضنا الطاعة، وفي الخارج يتحوّل الألم ذاته إلى "دليل" على "تخلّف ثقافي مزعوم"، بينما يفلت النظام المسؤول عن هذا العنف من أي مساءلة.

ثمّة فئة أخرى لا تقلّ تأثيرًا: المهنيون الغربيون، من أكاديميّين ومستشاريّن وخبراء دوليّين، الذين يقدّمون للنظام السعودي ما هو أثمن بكثير من شعارات "لينكد إن": الشرعيّة. هؤلاء أشخاص يعرفون تمامًا كيف تعمل الأنظمة الاستبداديّة؛ ينشرون أبحاثًا وتقارير عن عدم المساواة، ويشاركون في ندوات حول الجندر، ثم يطيرون إلى الرياض لالتقاط صور مفعمة بالمديح في فعاليات التوعيّة بسرطان الثدي، وزيارات الجامعات، والأنشطة المؤسّسيّة، دائمًا وإلى جانبهم نساء سعوديّات يوضعن في الصورة كدليل على "التقدّم". يتجوّلون في المواقع التراثيّة، ويكتبون عن "الرؤية" و"النهضة"، ويقفون لالتقاط الصور مع الوزراء ورؤساء الجامعات، ثم يعودون إلى لندن ليعلنوا أنّ "السعوديّة هي المكان الأمثل للنساء". ومن السهل جدًا وصف السعوديّة بأنها "المكان الأنسب" عندما تحمل تذكرة عودة؛ النساء اللواتي يعشن الواقع اليومي هناك لا يمتلكن تلك الرفاهيّة. بالنسبة لهؤلاء، المملكة ليست وطنًا يعيشونه، بل محطة مربحة، مكان لحصد الفرص المهنيّة والمغادرة قبل أن تصبح التناقضات غير مريحة.

داخل المملكة، تتكشّف طبقة أخرى من التواطؤ: فئة صغيرة لكن صاخبة من النساء السعوديّات المتميّزات اللواتي تعلّمن البقاء عبر الاصطفاف مع الدولة. دبلوماسيات، ومديرات تنفيذيات، ومُعَيَّنات في مناصب عليا، و"رائدات" مختارات بعناية يظهرن في الإعلام الرسمي يحتفلن بالتمكين والفرص، بينما يُدِرن ظهورهنّ للعنف الذي تتعرّض له النساء خارج دوائر امتيازهنّ. قصص نجاحهنّ تملأ البيانات الحكومية والمقابلات المجلّلة،  أول امرأة تقود وفدًا، الأولى التي تجلس في مجلس إدارة، الأولى التي تخاطب منتدى عالميًا، وكل عنوان يُستخدَم لمحو واقع الأغلبيّة. إنّ التلاعب بالوعي مستمر بلا هوادة: السعوديّة تتغيّر، النساء يزدهرن، والتمكين هو القاعدة الجديدة. وبما أنّ الولاء هو العملة التي تشترين بها امتيازاتهنّ، فإنهنّ يقمن بأقذر مهام النظام: مهاجمة المعارضات والمعارضين، وإسكات المنتقدات والمنتقدين، وتعليم النساء العاديات الشكّ في معاناتهنّ، والإيمان بأنّ المشكلة فيهنّ لا في النظام. ما لا يقلنه أبدًا هو أنّ هذا "التمكين" مُقنّن، يخضع لسيطرة صارمة، ويوزّع بانتقائيّة، ومرتبط دومًا بالطاعة. أصواتهنّ تطغى على صوت الأغلبيّة: نساء تتشكّل حياتهنّ لا بقرارات وزارية ولا بمؤتمرات دوليّة، بل بمحاكم الولاية، ولا مبالاة الشرطة، والتهديد المستمر بأن يُوصَفن "عاصيات". في هذا العرض الاستعراضي للتقدّم، لا تُهمَّش النساء السعوديّات العاديات فحسب؛ بل يُعمَد إلى جعلهنّ غير مسموعات عمدًا.

معًا، تُشكِّل هذه الفئات تحالفًا صامتًا: مستشارون غربيون يلمّعون صورة النظام، ونسويّات بريطانيات يوظّفن معاناتنا في حروب ثقافيّة، ونساء سعوديّات متميّزات يبعن امتيازاتهنّ بوصفها تقدّمًا وطنيًا. لا يجمع بينهنّ شيء سوى الأثر، إسكات النساء السعوديّات العاديات. وبينما تجني كل مجموعة نصيبها من الأرباح، سواء عبر العقود أو الظهور أو بناء المسار المهني، يصبح صمتنا عملة يشتري للنظام شرعيّة دوليّة. تغرق معاناتنا في خلفيّة رواية يعيد صياغتها الجميع باستثناء صاحباتها. تسير الكذبة بحريّة؛ أما الحقيقة فمحتجزة عند الحدود. ولهذا يغدو يوم 25 نوفمبر، اليوم الدولي للقضاء على العنف ضدّ المرأة، مرآة مُربِكة على العالم أن يواجهها. فهو اليوم الذي تزعم فيه الحكومات والمؤسّسات أنها تتصدّى للبُنى التي تُلحق الأذى بالنساء، ومع ذلك تظلّ النساء السعوديّات الأسهل تجاهلًا، لأنهنّ "سياسيات أكثر من اللازم"، و"مزعجات أكثر من اللازم"، و"متشابكات جدًا مع المصالح الغربية" بحيث لا يمكن الدفاع عنهنّ بصدق. إن كان لهذا اليوم أي معنى، فلا بدّ أن يبدأ برفض الكذبة: رفض التصفيق، ورفض الغضب الانتقائي، ورفض السرديات التي تمحو النساء اللواتي يعشن حياتهنّ تحت الرقابة والقسر. النساء السعوديّات لا يحتجن إلى إنقاذ على يد من يسيئن فهمهنّ؛ بل يحتجن إلى أن يتوقف العالم عن مساعدة الدولة في خنق أصواتهن. في هذا اليوم، يصبح أكثر الأفعال راديكاليّة هو أبسطها وأكثرها إيلامًا: الإصغاء، وأن نسمع أخيرًا الأصوات التي أمضى النظام عقودًا يحاول دفنها.

مشاركة المقال
رأي | لتقوية العلاقات بين الولايات المتحدة والسعودية، ينبغي على بايدن الإنصات إلى الأصوات المعارضة
نحن الثلاثة ترعرعنا في نفس الحي في العاصمة السعودية الرياض، ولكن حتى وقت قريب، أوجه الشبه كانت قد انتهت هناك.