قال ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في عدد من المناسبات أنه يريد إعادة السعودية للاعتدال، ويريد محاربة التشدد، وردد ذلك مع عدد من الوعود والرؤى المختلفة تماماً مع يجري على أرض الواقع، ففي حين كان يقول ذلك فإن حملات القمع والاعتقالات التعسفية لا تزال مستمرة، وإن كانت السلطات السعودية تحاول وسم المعتقلين بالمتشددين لتقنع بذلك البسطاء وضعيفي المعرفة بمجريات الأمور، إلا أن الواقع يقول أن عدداً كبيراً من المعتقلين هم من الرموز الإصلاحية البارزة، ومن الشخصيات الأبرز في دعم حقوق الإنسان والدعوة للإصلاح والاعتدال.
ففي حين تنتقد السلطات السعودية من قبل الفريق العامل المعني بمسألة الاعتقال التعسفي، والمقرر الخاص المعني بتعزيز وحماية الحق في حرية الرأي والتعبير، والمقرر الخاص المعني بوضع المدافعين عن حقوق الإنسان، وغيرهم من المقررين والفرق التابعين للمفوضية السامية لحقوق الإنسان، وذلك بخصوص حملات الاعتقالات التي تطال المدافعين عن حقوق الإنسان والنشطاء وغيرهم، وحيث ترد السلطات السعودية بردود تجنبها الدقة، وتتنافى مع ما تتعهد به من اتفاقيات وتعهدات، ومع هذا، تصر السلطات السعودية على إبقاء نشطاء حقوق الإنسان، وبقية معتقلي الرأي في السجون، وتصر كذلك على استمرار محاكمتهم بنفس الوتيرة السابقة وبنفس الانتهاكات والأخطاء القانونية السابقة وأكثر من ذلك، وتصر على الزج بعدد آخر من الحقوقيين والإصلاحيين في السجون،
لتثبت بذلك تناقضاً بائناً بين ما تدعيه وتقوله وتتعهد به، وما تفعله على أرض الواقع. ومع إطلاق ولي العهد السعودي لوعوده، كان ولا يزال أعضاء جمعية الحقوق المدنية والسياسية حسم في السجون، بأحكام وصلت 199 عاماً بين سجن ومنع من السفر بحق أعضائها، وتم اعتقال العضوين الأخيرين في الجمعية مع حملة الاعتقالات الأخيرة، فاعتقل عبدالعزيز الشبيلي ليمضي مدة عقوبة بالسجن لثمانية أعوام ومثلها من المنع من السفر والكتابة، واعتقل أيضاً عيسى الحامد من السوق عندما كان برفقته أحد أطفاله، ليكون الاعتقال بطريقة لا تعكس أية نية للإصلاح أو للسماح للإصلاحيين بالعمل أو بحياة كريمة، والشبيلي والحامد ناشطا حقوق إنسان ومدافعان عن الحريات والحقوق، وداعيان للوسطية والتسامح. كما لا يزال رفاقهم في السجن ومن بينهم القاضي السابق سليمان الرشودي والذي تجاوز الثمانين عاماً من العمر.
بالإضافة للناشط المعروف فوزان الحربي والدكتور عبدالكريم الخضر والدكتور محمد بن فهد القحطاني والدكتور عبدالله الحامد وشقيقه الدكتور عبدالرحمن الحامد. ولايزال في السجن أيضاً عدد من النشطاء الحقوقيين الذين تم اعتقالهم والحكم عليهم بسبب دفاعهم عن حقوق الإنسان ومطالبتهم بوقف انتهاكات السلطة، ومنهم الناشط الحقوقي فاضل المناسف المعتقل منذ العام 2011 والمحكوم عليه بالسجن 15 عاماً والمنع من السفر مدة مماثلة بالإضافة إلى غرامة مالية قدرها 100 ألف ريال سعودي، والناشط الحقوقي وليد أبوالخير المعتقل منذ العام 2014 والمحكوم عليه بالسجن لمدة 15 عاماً بالإضافة إلى منعه من السفر لمدة مماثلة وغرامة مالية قدرها 200 ألف ريال.
وفي ديسمبر الماضي اعتقل الناشط الحقوقي عيسى النخيفي والذي كانت جلسة محاكمته يوم الإثنين 30 أكتوبر 2017، وحددت المحكمة 19 نوفمبر 2017 موعداً لجلسة جديدة للنخيفي. واعتقل في التاسع من يناير 2017 الناشط الحقوقي عصام كوشك، وعقدت جلسته الأخيرة في 30 أكتوبر 2017، وتم تحديد الـ 28 من نوفمبر 2017 موعداً لجلسة النطق بالحكم.
كما لا يزال في السجون عدد من معتقلي الرأي الذين اعتقلتهم السلطات بسبب آرائهم السلمية، مثل الكاتب الصحفي علاء برنجي والذي طالما دعا للإصلاح وللسماح بقيادة المرأة للسيارة، وهو يمضي حالياً عقوبة بالسجن لسبعة أعوام، والشاعر الفلسطيني أشرف فياض الذي اعتقل بسبب نشره لقصائد شعرية، ورائف بدوي الذي اعتقل بسبب مقالات نشرت على موقع كان يديره رائف نيابة عن شخصيات مقربة من السلطة، والكاتب الصحفي نذير الماجد، والإعلامي وجدي غزاوي، وغيرهم الكثير.
ومما يؤكد استمرار السلطات على ذات النهج وبوتيرة أقسى هو ماشهدته الأيام الأخيرة من حملات اعتقالات وقمع طالت رموزاً إصلاحية، كالدكتور سلمان العودة المعروف بمواقفه المعتدلة، والداعم بوضوح لقيم حقوق الإنسان، وكذلك الكاتب عبدالله المالكي أحد أبرز الرموز الإصلاحية، وعصام الزامل، ومصطفى الحسن الإصلاحي المصاب بمرض السرطان، والباحث الشرعي حسن فرحان المالكي المعروف بمواقفه المتصدية للتطرف والعنف، حيث داهمت السلطات هؤلاء واعتقلتهم بطريقة فجة لا تراعي حقوق الإنسان، وآذت أسر وأطفال الضحايا أثناء مداهمة المنازل.
وعندما قررت السلطات رفع حظرها عن قيادة المرأة للسيارة وذلك بعد سنوات من المنع وسجن الناشطات ومصادرة مركباتهم، وبعد ضغوط داخلية وخارجية، قررت السلطات السماح للمرأة بالقيادة لتكشف للجميع أنه لا يوجد أي اعتراض مجتمعي، ولا أي تحريم ديني، كما كانت تدعي السلطات وتردد، وتبين للجميع موافقة من الهيئات الدينية، وترحيب كبير من قبل أطياف المجتمع، ليثبت زيف تعذر السلطات بالمجتمع في إطار قمعها وحرمان الناس من حقوقهم، وتأكد للقسط من عدد من المصادر على الأرض أن أمن الدولة اتصل بالناشطات جميعاً لينذرهم من إبداء رأيهن في قضية رفع الحظر، ومنعهن من التعليق بأي كلمة، وأوعز لعدد من النساء المقربات من السلطة الحديث بدل الناشطات ليشكرن الملك والسلطة، ولكي لا يعد انتصاراً لنضال ناشطات حقوق الإنسان، ليكون القمع وتكميم الأفواه مرافقاً لهذا الملف في أثناء السماح والمنع.
إن من أبرز ماقاله ولي العهد السعودي وهو يدعو للاعتدال أنه سيدمر من يقف في طريقه، في إشارة إلى قمع كل من يعترض على سياساته التي قد تأخذ البلاد للمجهول، سواء بحربه على اليمن، أو توتير العلاقات مع دول أخرى، أو تعريضه لاقتصاد البلاد للخطر، ولكنها رسالة قد يفهمها البسطاء وضعيفو المعرفة بالبلاد بأنها تهديد للتشدد والتطرف.
القسط تؤكد أن التشدد والتطرف هو نتيجة لسلوك السلطات ونهجها، فهي تمنع كل سبل التعبير عن الرأي، وتتملك الفضاء العام بشكل مطلق، ومسؤولة عن التعليم والإعلام والخطب الدينية، وفوقها عن كبت الناس ومنعهم من التعبير بسلمية، وتحريم حقوق الإنسان، وخلق العداء بين المجتمع والمجتمعات الأخرى، وكذلك العداء بين أطياف المجتمع، وتكريس عدم قبول الآخر، والتكفير والإقصاء، سواء منذ تأسيس الدولة وقتل المخالفين لرؤيتها، وحتى وعودها التجميلية الأخيرة والزج بجميع المخالفين في السجون.
إن الإعتدال والعودة للإسلام الوسطي يتطلب التسامح الحقيقي وليس التطرف وتدمير المخالف، ويتطلب قبول الرأي الآخر والسماع له، والسماح بحرية التعبير عن الرأي، وتعزيز قيم وثقافة حقوق الإنسان، لينتج لنا مجتمعاً يتحاور عندما يختلف، ولا يتجه لخيارات متطرفة كالسجون والقمع أو العنف والحروب.
القسط تؤكد أن الخطوة الأولى للإصلاح ليست باطلاق الوعود دون التزام، وليست بالوعد بتدمير المخالف، ولا بمزيد من القمع ومحاولات تضليل الرأي العام، بل بالإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع معتقلي الرأي، والتوقف التام عن محاكمة الناس ومعاقبتهم إزاء آرائهم المدنية والسلمية، وضمان قضاء مستقل وعادل، والتوقف عن انتهاكات حقوق الإنسان وقمع حرية التعبير عن الرأي، ليستطيع المجتمع أن يمضي حقيقةً للإصلاح والاعتدال والتعايش، وينعم بحقوقه المشروعة.